إذا كانت السياسة الخارجية للدول تقوم على المصالح والعلاقات الدولية؛ فإن السياسة الخارجية التركية في عهد حكم حزب العدالة والتنمية برئاسة "رجب طيب أردوغان" قامت على مجموعة من المحددات والأبعاد والعوامل التي راهنت عليها تركيا لتحقيق دور إقليمي في قيادة المنطقة، وقد بدا هذا الأمر واضحًا مع انطلاق موجة ما يُسمى بـ "ثورات الربيع العربي"، وطريقة تعامل أنقرة مع الأزمات الإقليمية.
وفي هذا الصدد، تُثار أسئلة كثيرة، ومنها: إلى أي درجة كانت الرهانات التركية صائبة؟ وهل كانت تقوم على قراءة دقيقة لواقع المنطقة والعلاقات الدولية؟ والأهم: كيف انعكست هذه الرهانات على السياسة الخارجية التركية؟
معتقدات "أردوغان"
تتمثل أهم المحددات والعوامل التي تقوم عليها سياسة تركيا الخارجية في عهد "أردوغان"، فيما يلي:
1- أن تركيا التي اتجهت في البداية إلى الانفتاح على الدول العربية ومجمل الجوار الجغرافي انطلاقًا من نظرية "صفر المشكلات"، وعقدت مع هذه الدول سلسلة اتفاقيات على أمل التعاون والتكامل؛ تخلت عن هذه السياسة لصالح البُعد الأيديولوجي الذي تجلى في دعم حركات الإسلام السياسي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، وسعت أنقرة إلى إيصال هذه الجماعة إلى السلطة في عددٍ من الدول على أمل أن تُشكِّل جسرًا لقيادة تركيا للمنطقة.
2- أنّ تركيا وفي سعيها لتحقيق هدفها السابق اتجهت إلى دعم عدد من التنظيمات المسلحة، وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح في الأزمة السورية.
3- انطلقت تركيا من قناعة بأن عضويتها في الحلف الأطلسي وعلاقتها التاريخية مع الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، تعد بمثابة موافقة غربية على الدور الذي تتطلع إليه أنقرة في المنطقة، خاصة وأنها اعتقدت أن نموذجها السياسي حقق المعادلة الصعبة في التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، وأن هذا النموذج هو ما يريد الغرب تعميمه في المنطقة.
4- إلى جانب تبني تيارات الإسلام السياسي، ارتكز المشروع التركي على معادلة تاريخية أطلقت عليها (العثمانية الجديدة)، وهي معادلة أرادت السياسة الخارجية التركية من خلالها الاستفادة من الروابط التاريخية والثقافية والاجتماعية لبناء عالم أو فضاء جغرافي حيوي للسياسة التركية.
وقد بدت هذه الرهانات التركية واضحة في ساحات مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق وفلسطين، على أمل أن تؤدي هذه السياسة إلى قيادة أنقرة للشرق الأوسط في إطار النظريات التي طُرحت لإعادة ترتيب الوضع في المنطقة.
مآلات خاسرة
يُمكن القول إن الرهانات التركية في الإقليم كانت أقرب إلى الطموحات القاتلة والأوهام الأيديولوجية والسياسية؛ إذ إن نظرةً واحدةً إلى ما آلت إليه السياسة الخارجية التركية تجاه دول المنطقة تكشف لنا الصورة المأساوية التي انتهت إليها هذه السياسة، بل والأخطر انتقال تداعيات هذه السياسة إلى الداخل التركي على شكل تهديد لأمنها القومي.
وبالتالي فالقراءة الدقيقة في مآلات العوامل التي انطلقت منها السياسة التركية تجاه العالم العربي ومُجمل الجوار الجغرافي، تضعنا أمام النتائج التالية:
1- أن البُعد الأيديولوجي الذي اعتمدته تركيا في دعم حركات الإسلام السياسي بغية إيصالها إلى السلطة، كشف حقيقة قصور الوعي السياسي التركي في فهم طبيعة العلاقات الدولية، وكيفية تطوير العلاقات بين الدول على أساس المصالح المشتركة والتنمية وبما يخدم الاستقرار والديمقراطية؛ إذ تحوَّل هذا البُعد إلى مشكلة للسياسة الخارجية التركية تبلورت في صعوبة إقامة علاقات إيجابية مع العالم العربي، لا سيما في ظل موقفها العدائي من مصر.
كما أن المقاربة التركية لقضية التصدي للخطر الإيراني في المنطقة بدت مكشوفة؛ إذ ظهرت السياسة الخارجية التركية وكأنها تنتهج خطابين متناقضين؛ ففي الوقت الذي كانت تؤيد فيه المواقف الخليجية في اليمن وسوريا، حرصت على إقامة علاقات جيدة مع إيران انطلاقًا من مصالحها الاقتصادية والتعاون معها لمواجهة الصعود الكردي في المنطقة.
2- أن قضية الدعم التركي لعددٍ من الجماعات المسلحة في سوريا بغية التخلص من نظام بشار الأسد، أسفرت عن نتائج في غاية السلبية، فمن جهة أدى هذا الدعم إلى عسكرة "الثورة السورية"، وتحولها إلى العنف المسلح، وصعود الجماعات الإرهابية، لا سيما "داعش" و"النصرة"، ومن جهة ثانية كانت سببًا في المزيد من التدخلات الخارجية التي عقَّدت من الأزمة السورية، وجعلتها أزمة إقليمية ودولية بامتياز.
وقد كان لما سبق تداعيات كبيرة على السياسة التركية تجاه الأزمة السورية؛ حيث وصلت هذه السياسة إلى طريق مسدود، وهو ما أجبر أنقرة على الانفتاح والتقارب مع موسكو عبر الانقلاب على شعار "إسقاط النظام السوري". فبعد خسارتها معركة حلب لم تعد تركيا معنية بإسقاط هذا النظام، وإنما أصبحت أولويتها هي كيفية محاربة الصعود الكردي في سوريا، لا سيما مع اقتراب حسم معركة الرقة.
وفي العمق، باتت تركيا تخشى من أن يؤدي تحرير الأكراد للرقة من "داعش" إلى ولادة إقليم كردي سوري على غرار إقليم كردستان العراق على حدودها الجنوبية، وهو ما تعده تركيا خطرًا مصيريًّا على أمنها القومي، خاصةً وأن ما يجري كرديًّا في سوريا والعراق سيشجع كُرد تركيا على رفع سقف مطالبهم القومية.
ولعل الجانب الآخر الذي لا يقل خطورة عن التحدي الكردي هو انتقال خطر المنظمات الإرهابية إلى الداخل التركي، وانتشار السلاح بشكل كثيف؛ حيث شهدت تركيا خلال الفترة الماضية سلسلة من التفجيرات الإرهابية في قلب المدن الكبرى (مثل: إسطنبول، وأنقرة، وديار بكر)، وهو ما دفع المعارضة التركية إلى تحميل حكومة حزب العدالة والتنمية المسئولية عنها بوصفها تجاهلت خطر انتقال هذه المنظمات الإرهابية إلى الداخل التركي عندما دعمتها وحاولت استخدامها لتغيير أنظمة حاكمة في المنطقة.
3- أثبتت الوقائع أن رهانات تركيا على الغرب لانتهاج سياستها السابقة تجاه الأزمات التي تشهدها المنطقة، لم تكن دقيقة أو صائبة؛ إذ إن تركيا وبحكم عضويتها في الحلف الأطلسي راهنت على أنها ستنجح في جلب الحلف إلى التدخل في الأزمة السورية وتغيير النظام، لكن حادثة إسقاط تركيا لمقاتلة روسية ومن ثم التصعيد الذي مارسته موسكو ضد أنقرة أثبت عدم صحة الرؤية التركية، وخيبة أملها من الحلف الأطلسي، إلى درجة أن تركيا تحدثت عن خيانة الحلف لها، وعليه بدأ التوتر يخيم على علاقة تركيا مع حلف الناتو، بل وصدرت أصوات كثيرة عن الحلف تطالب بإخراج أنقرة من عضويته.
أيضًا، تبدو العلاقات التركية-الأمريكية في أسوأ حالاتها بسبب رفض واشنطن الاستجابة للمطالب التركية بالتخلي عن الدعم العسكري لكُرد سوريا، وإبعادهم عن معركة تحرير الرقة، والاعتماد على تركيا بدلا منهم. وعلى غرار الولايات المتحدة، فإن علاقة تركيا مع أوروبا سلبية للغاية لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بمشكلات انضمامها للاتحاد الأوروبي، والانتقادات الأوروبية لطريقة تعامل أردوغان مع المعارضة في الداخل.
4- حَمَلَ مُجملُ الخطاب السياسي التركي تجاه العالم العربي نزعةً "عثمانية" تتحدث وكأن هذا العالم حديقة خلفية لتركيا الطامحة إلى استعادة أمجاد الدولة العثمانية، فالقدس وغزة وحلب وبغداد والموصل وغيرها من العواصم والمدن العربية بدت وكأنها شأن داخلي في خطابات أردوغان، وقد أحيت هذه الخطابات المخاوف في المنطقة من طموحات تركية جامحة، لا سيما عندما تحدث أردوغان عن موت اتفاقية "لوزان"، وإصراره على المشاركة في معركة الموصل، وحديث الأوساط التركية عن حقوق تاريخية في الموصل ومناطق أخرى في الشمال السوري، في استحضارٍ للإرث العثماني، لا سيما وأن هذا الأمر تزامن مع تحولات في الداخل التركي على شكل التخلص من الأسس التي قامت عليها الجمهورية لصالح بناء نظام رئاسي أعطى لأردوغان صلاحيات شبه مطلقة.
ختامًا، يُمكن القول إن الدرس الذي ينبغي استخلاصه هو أن سياسة الرهانات التركية السابقة كانت تعبيرًا عن عدم فهم دقيق لطبيعة قضايا وأزمات المنطقة ولتعقيداتها التي لها علاقة بالمصالح والعلاقات الدولية والإقليمية، وهو ما ألحق خسارة بهذه السياسة، ووضعها في امتحان مع نفسها دون أن تعرف كيف تخرج منها حتى الآن.